الأربعاء 10 ديسمبر 2025 03:42 صـ 19 جمادى آخر 1447 هـ
بوابة صوت الصعيد
رئيس التحرير محمد عبد اللاه
×
x

العزلة.. عرض أم غرض

الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 02:35 مـ 18 جمادى آخر 1447 هـ
العزلة.. عرض أم غرض

يمتاز القرن الحالى بارتفاع عدد السكان مقارنة بالعهود السابقة ،مما جعل الاختلاط بالناس حتمى والسلامة منهم ضرب من ضروب الخيال،وأمنية تكاد تكون طيفا من أحلام الخيال .

فزماننا انتهكت فيه الخصوصية،وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي، في زيادة شغف الناس لانتهاك حرمتك،والاطلاع على أدق اسرارك،فأصبحنا كأننا نعيش فى الشارع كما جاء فى فيلم "كراكون فى الشارع."

ولعل مقولة أن مصر"أوضتين وصالة " تعكس تماما أننا نعيش فى بيوت الناس وليس بيوتنا،وأصبحنا عرايا أمامهم،فالجميع أنا وأنت وهم نعيش ونقتات على حياة الآخرين،ونتنفس أخبارهم،ونتتبع قصصهم،وتشجينا وتطربنا أحزانهم،ونستمتع بانكساراتهم وهزائمهم،ونتألم ونحزن لأفراحهم، وتوجعنا نجاحاتهم.

فأصبحت العزلة ضرورة بعد أن كانت خطرا،وزيادة المسافات بينك وبين الناس سلامة لك ولهم.
يقول وهيب بن الورد :"خالطت الناس خمسين سنة،فما وجدت رجلا غفر لى ذنبا فيما بينى وبينه،ولا وصلنى اذا قطعته،ولا ستر على عورة،ولا آمنته إذا غضب،فالأشتغال بهؤلاء حمق كبير"؛ يقول هذا فى زمنه فلعله لايجد ما يقول فى زماننا.

العزلة كان حديث الكثير من علماء الدين والاخلاق وشغلت المفكرين والفلاسفة،ومارسها رجال الدين من جميع الطوائف.، فها هو الأمام الشافعى يقول:"أنست بوحدتى ولزمت بيتى فطاب الأنس لى وصفا السرور وأدبنى الزمان فلا أبالى هجرت فلا أزار ولا أزور ولست بسائل ما عشت يوما أسار الجنود أم بقي الأمير".

اعتزال البشر أصبح أمر صحي لأن عزلتك لن تؤذي أحدا ولن تسمع أو ترى ما يؤذيك ستكون في صفاء ذهنى.فابتعادنا عن البشر لا يعنى كرها أو تغيرا،فالغربة وطن للأرواح المتعبة،ليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس جبل.

فالعزلة راحة من غيبة،وفرار من نميمة،ودرء من سقطات اللسان،ورحمات من القيل والقال.وكذلك ضرورة للبعد عن المشاعر المزيفة والمجاملات الفارغة ، كما يقول د.مصطفي محمود ويرى أنها حتمية للصدق مع النفس حين يكون الانسحاب حفاظا على النقاء الداخلى من مسرح التمثيل الاجتماعى.

وبالرجوع إلي سيرة كثير من الصالحين والعلماء والمفكرين نجدهم غالبا يمارسون العزلة ويفضلون الابتعاد عن الناس،ولعل أكثرهم شهرة هو الإمام أبو حامد الغزالى، الذى اعتزل الناس طويلا لمدة تقارب احد عشرة عاما للوصول إلى علم الحقيقة .

العزلة أو تحديدا الخلوة في الصوفية غرض وطقس أساسي للصوفي،فندر أن تجد وليا أوعارفا ليس له خلوة،ومدتها تقصر وتطول حسب الهدف منها،والاربعينات منها هي الاشهر في قصص اأاولياء.
الخلوة او العزلة فى الصوفية قديمة،بل ضاربة في القدم،وذلك بمعناها العزلة عن الخلق وأخذ النفس بالرياضات

هنا خلوة يتلوها جلوة،هي موجودة فى جميع الطرق الصوفية،ويمكن سحبها إلى عهود الانبياء،فكما يقول فتح الله كولن في المقدمة يأتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وكثير من الأنبياء قد زاولوا الخلوة والعزلة،فها هى عزلة سيدنا ابراهيم،وأربعينات سيدنا موسى ورياضات سيدنا المسيح.

كلماتى ليست دعوة للإنعزال أو تشجعيا للابتعاد عن الناس والانعزال عنهم واجتنابهم والبعد عن مخالطتهم،سواء هربا منهم ،أو درءا لمشاكلهم أو تعاليا عنهم،فالعزلة أو الخلوة هنا عرض لمرض قلبي أو رهاب مجتمعى وجب التداوى منهم.

أفضل وأنقى صور العزلة تلك التى يمارسها الاتقياء والأصفياء وهم يخالطون الناس؛و هى ما كان يعنيه عبد الله المبارك حين قال: "هو أن يكون مع القوم،فإن خاضوا فى ذكر الله فخض معهم،وإن خاضوا في غير ذلك فأسكت. "