عادل صابر أمير فن الواو يكشف أسرار الإبداع في ديوان مؤمن الدالي سباقي الواو البكر”

كتب - مصطفى عبد الرحمن
في إطار الاهتمام بإحياء التراث الشعري الشعبي وفن الواو الأصيل، قدّم الشاعر الكبير عادل صابر، الملقب بأمير فن الواو، دراسة نقدية موسعة عن الديوان الأول للشاعر مؤمن الدالي، ابن قرية حجازة بمركز قوص، والذي جاء بعنوان "سباقى الواو البكر".
الدراسة ألقت الضوء على فرادة تجربة الدالي الشعرية، وأكدت تميزه عن معاصريه من شعراء الواو، حيث وصفه صابر بأنه شاعر مختلف له بصمته الخاصة، يجمع في نصوصه بين الوجع الإنساني والروح الشعبية الأصيلة.
وإلى نص الدراسة:
بسم الله الرحمن الرحيم " فأمّا الزبدُ فيذهبُ جُفاءً وأمّا ماينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض " صدق الله العظيم
والصلاة والسلام على النبى الأعظم محمد رسول الله، مولود الأرض الذى ربّته السماء، النبى الأمِّى الطاهر الزكى، منقذ البشرية ومعلّم الإنسانية، والعابر بنا من الظلمات الى النور.
يقول الفيلسوف الهندى الكبير " بيدبا " ان الشعر إذا لم يفهمه راعى الغنم قبل الحاصل على الدكتوراه، فليس شعراً، والشاعر الذى لاتحفظ له بيتاً من الشعر ليس بشاعر !!.
ويقول الشاعر الإنجليزى درايدن: أن الشعر يجب أن يحاكي الطبيعة من خلال محاكاة الأفكار النموذجية الكامنة في الأشكال الطبيعية، مع مراعاة الزمن والبلد في التنوع الثقافي.
وأيضا يقول الشاعر الأسبانى جاثيا لوركا عن الشعر الشعبى: الشعر الشعبى هو جزء من هويتنا وأصولنا، فالشاعر الشعبى يعبّر عن روح قومه وقبيلته ليعطى لشعره بعداً شعبياً عميقا.
ويقول شاعر مصر الكبير نجيب سرور: الشعر مش بس شعر، لو كان مقفَّى وصحيح، الشعر لو هز قلبك وقلبى، شعر بصحيح !!.
أما شاعر الانسانية الكبير عبدالرحمن الأبنودى فيقول: لو فتشت في قنا ستجد بجوار كل حجر فنان، وتحت كل نخلة شاعر .
ونحن اليوم أمام شاعر متميز مختلف، يغرِّد خارج السرب، ولا ينتمى الى القطيع، شاعر له خصوصيته ونكهته الخاصة، لدرجة إنك ما ان تقرأ شطرةً أو غصن من مربعه حتى تعرف أن هذا المربع لمؤمن الدالى المتميز عن شعراء جيله، ومن حق قرية حجازة، بل قوص بأسرها أن تفتخر بهذا الشاعر الرائع، الذى يحمل شعلة الواو الحقيقى الأصيل وسط رياح التقليد والنحت واقفا صامداً لايتزعزع ، فلا سكنت الريح ولا انطفأت شعلته!!
مؤمن الدالى شاعر ينتصر للجماعة الشعبية دائما وينحاز اليها، فهو لم يخُن الفقراء والطبقة الكادحة ، وكأنه خُلق ليشبع طموح الطبقة الكادحة فهو إبنهم البكر الذى يشدو بشعره منهم ولهم، وحقق مقولة الفيلسوف "بيدبا" الهندى في عبقرية البساطة، حتى جعل راعى الغنم يتوق الى مربعاته ويحفظها ويرددها ويدندن بها وهو يرعى غنمه في الحقول البعيدة.
لقد قرأت ديوان مؤمن الدالى وهو باكورة أعماله، فوجدته بكراً غير مشوه، ومتفرد على مستوى المفردات التراثية السلسة ، والاسلوب المدهش في الطرح ، وروح المربع الذى يأسرك من أول مايبدأ بناصية القول ، والصورة الشعرية الطازجة ، فمؤمن الدالى قدّم لنا منجزاً ابداعياً مختلفاً ومتميزاً، عن أقرانه من حيث كل أدوات المربع، فهو لم يُعِد المُعاد ولم يكرِّر المكرَّر، ولكنه نأى عن الحشو والإسفاف والإبتذال والنحت والتقليد، وفر منهم فرار الذئب من دم ابن يعقوب، فأخرج لنا ديوانا شعريا يليق بفن الواو الأصيل المتميز، ويتماهى مع الوجع الإنسانى الذى كان قضية مؤمن الدالى الأساسية الكامنة في روح مربعاته الرائعة والتى تتشبع بالألم، والحزن الشفيف، والمعاناة الانسانية بصفة عامة ، لدرجة أنه في بعض مربعاته كان يسخر من حزنه، ويتهكم على معاناته بأسلوب فكاهى، وكأن الحزن يضحك داخل المربع ، رغم أنه بَعُد كل البعد عن التهريج الأدبى، والفرح، والأمل الكاذب ، فحقق لنا مقولة شاعر العراق الكبير بدر شاكر السيّاب عندما قال: " الشعر معظمه نكد، فإذا ماخالطه فرح فسد !! "، وهكذا كان ديوان الشاعر الرائع مؤمن الدالى بعد قرائته، وجدته شجنا وحزنا ووجعاً انسانيا لم يخالطه فرح يفسد مربعاته ويحولها الى مربعات تهريجية مهترئة تموت بموت الفرح، ونحن نعرف أن الحزن هو القاعدة الدائمة أما الفرح فهو الأستثناء المؤقت، وهكذا كان من ذكاء مؤمن الدالى أن غازل الحزن والشجن والوجع الانسانى في مربعاته فأخرج لنا مشروعا أدبيا يتسم بصفة الخلود . فعندما تقرأ ديوان الدالى تجده جالساً تحت ظلال مربعاته، تارة حزيناً، وتارةً ساخراً ، وتارةً ناقماً على الحياة، وتارةً راضياً عن قدره، قانعا بتقلبات الدهر.
فهو لم يلوِّح في ديوانه للضاحكين أو البلهاء لكنه غازل الحزانى ، وعمل بقول الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة ، عندما كانت تحاطب الشاعر المبتسم الخانع، الخاضع فتقول: -
قطِّب، سئمتك ضاحكاً
ان الرُبَى بردٌ ودفٌء لا ربيعٌ خالدُ
العبقرية، يا فتاي، كئيبةُ
والضاحكون رواسبٌ وزوائدُ
***
اني احبُ تعطُّش البركان فيك الى انفجار
وتشوّق الليل العميق الى ملاقاة النهار
وتحرّق النبع السخي الى معانقة الجرار
اني اريدك نهر نارٍ ما للجته قرار
***
هكذا كان مؤمن الدالى في ديوانه، كان مقطّب الجبين وهو يكتب عن الغضب والوجع والتمرد، والبركان الذى ينفجر في مربعاته ، فكان سخيا في عطائه الريفى المؤرَّق بحزن القرى وبوح الفقراء، كان يتحرّق شوقاً للقاء وجع المطحونين، كتحرق النبع السخى الى معانقة الجرار. فقد كان صوت البكاء والإنين والنحيب يسكن في مربعاته حتى تكاد تسمعه وأنت تقرأ مربعاته ،وكان حزنه حزن رجل ريفى يخشى على بيته الطينى القديم من هطول المطر، بينما أطفاله يفرحون بالماء وهو ينسكب فوق رؤسهم، وهكذا هو الشاعر. .
وعندما ننظر الى الديوان الذى أمامنا ونبدأه من العنوان، والذى أسماه الشاعر: " سباقى الواو البكر "، نجد أن العنوان يتماهى مع مضمون ومحتوى الديوان، وكأن العنوان هو " الباسوورد" او كلمة السر التى ندخل من خلالها الى الديوان ، ونتلو ماتيسر من أسفار مؤمن الدالى وحكمه وبيانه وكأنه سفر من أسفار العهد القديم، بالفعل نجد أن كل مربع أبدعه الشاعر، كان كأنه نخلة طيبة تلقى ببلحها البكر على رؤوس العابرين . فكان العنوان يدل بقوة على المحتوى والمضمون .
- مؤمن الدالى لاينفصل عن إبداعه :-
كثيرا مانرى أن الشاعر في معظم الأحيان ينفصل عن ابداعه، وتكون شخصيته بعيدة كل البعد عن شعره، فمثلا يكون عربيداً ويكتب عن الإلتزام ، فاسقاً ويكتب عن التقوى، ذئباً ويكتب عن حقوق النعاج في الحياة ، وحريتهم في التمرد على الزرائب !! لكن مؤمن الدالى كانت شخصيته المتدينة ، الأخلاقية ، الملتزمة، الطيبة، السخيّة، كشعره تماما، فليس هناك مسافة بينه وبين أبداعه ، وكأنه في مربعاته يرصد سيرته الذاتية بطريقة غير مباشرة، او كأنه صياد فقير يقف على شاطئ البحر ويشير الى نفسه داخل بحر المعاناة ، ويبوح بوجع الصيادين، لكنه في الحقيقة يبث وجعه هو الى الأمواج العاتية . وهكذا يكون مؤمن الدالى قد حقق خاصية تماهى الشاعر مع وجعه، والتصاقه ببكاءه المكتوم ، الذى كلما قرأناه ظننا أنه يقصدنا نحن، ولكنه في الحقيقة يشير الى نفسه ويختزلنا نحن داخله !!.
- المفردات: اعتمد مؤمن الدالى ولن أقول قصد أن تكون كل مفرداته تراثية، بل محلية المحلية، حتى أنه كتب معظم مربعاته باللغة الشعبية المحلية الخاصة بقريته، ولم يتطرّق الى قرى أخرى فصار ابن بيئته، ورغم زحف المدنية بالكثير من كلماتها الدخيلة علينا هذه الايام ، لكن مؤمن الدالى عمل على تنشيط ذاكرته واستخدم المصطلح السينمائى " فلاش باك " أو العودة للخلف، فعاد الى مفرداته القديمة التى تسكن داخله، والتى تركها الزمن الجميل وانصرف، وكأنها قِطَع من النهار قد تركها الليل الطول ومضى . فجاء ديوانه مكتظاً بالمفردات التراثية الأصيل .
- الصورة الشعرية: استخدم مؤمن الدالى صوراً شعرية تمتاز بعبقرية البساطة، واستحضر فيها روح الريف وزخمه ليخرج لنا الصور خضراء عفية، جاءت من بكاء السواقى وهى تسكب دموعها على صدر الحقول، ومن بهجة المحراث وهو يفج بطن الأرض، ومن حزن المغارب، وأنين الناى ، وطين الترع، وبراح الحرجان، وبوح النجوع ، وخوف سنابل القمح من غشَم المناجل، وفرحة عيال النجع وهم يلتقطون البلح من تحت أقدام النخيل . قدّم لنا مؤمن الدالى الصورة الشعرية مختلطة بالحكمة الريفية البسيطة التى تشبع طموح المتلقى وتبهجه .
- حالة الساسبنس أو التشويق عند مؤمن الدالى :-
مؤمن الدالى استطاع أن يحقق معادلة عدم ملل القارئ حتى لو كان النص طويلا، فهو يستدرج القارئ من حيث لايشعر، فعندما يبدأ القارئ في قراءة مربعاته يصبح كالمسحور الذى يوجهه الشاعر حيث يشاء ، وذلك يُحسَب لمهارة الشاعر ولؤمه الأدبى ، الذى جعله في حالة هيمنة وتحكم في الذائقة الفنية للمتلقى ، وكأنه يمسك بلجام فرس الشعر ، ويمتطى ظهر السطور، ليجعل القارى يحلّق في فضاءات مؤمن الدالى ، وأفقه الرحب، بجناحين لايريدان الهبوط الى الارض . فكلما شربت من خمر مربعات مؤمن الدالى، تذوقت مرار الدوالى اللذيذ في خمره، فلاتكاد ترتوى حتى تشعر بالعطش لخمره المعتقة بمرار الدوالى الذى هو أحلى من العسل .
- مؤمن الدالى يبتعد عن التقليد والنحت :-
في هذه الأيام اختلط الحابل بالنابل في شعراء الفنون القولية ، فصاروا يكتبون مربع أو موال النموذج الواحد، نفس المفردات، نفس الصور التقليدية الموحدة ، نفس القفلات ، مع الهروب بطريقة سذاجة من مأزق السرقات الأدبية ، لكن مؤمن الدالى حاول بقدر الإمكان الابتعاد عن تكرار المكرر وأعادة التدوير ، أو اعادة الانتاج مثل الكثير من الشعراء، فقدم لنا مربعا مختلفا بكرا متميزا في كل أركانه ,وأدواته الإبداعية .
- مؤمن الدالى يبتعد كثيرا عن غرض الهجاء والفخر والسجالات الشعرية، التى تنتقص من إبداع الشاعر الحقيقى ، فالهجاء وتلقيح الكلام في الشعر وفن الردح اذا كثر في المربعات، أثر بالسلب على الابداع ، وكأن الشاعر يقوم بحالة تعويضية عن عجزه وإفلاسه من خلال هجائه ومبارزاته المتواصلة ، فكان كالتاجر المفلس ،عرضه كثير ولكن بضاعته قليلة داخل الدكان. فالمتلقى يرد ابداعاً وليس ردحاً ، يريد من الشاعرهمس الإبداع ولا يريد نعر الإفلاس، وكما يقول عالم النفس الأكبر فرويد: " من كان ضعيفاً في شئ، كَثُر ادعاءه فيه "، فنجد أن الناس كل منهم يكثر حديثه عما ينقصه ليشبع نقصه ولو بطريقة كاذبة ، فقليل الأصل يتحدث دائماً عن الاصول والأنساب، والفقير يتحدث عن المال ، والمحروم عاطفيا يكثر حديثه عن مغامراته الرومانسية، والساقطة تتحدث كثيرا عن الشرف، وهكذا الشاعر الضعيف يكثر من تلقيح الكلام والردح الذى لايخدم منجزه الأدبى بقد ما يخدم منجزه اللأخلاقى المهين .. الإبداع والشعر ليس معركة في سوق المواشى ، لكنه كلاماً راقياً حالماً نبيلا، فالشعر هو المُقمر حين يكون الناس مظلمين، وهو المثمر حين يكونوا ضامرين ، وهو الشجاع وسط الجبناء ، وهو السخى بين البخلاء!!.
- ودعونا نستمتع ببعض المقتطفات من مربعات ديوان مؤمن الدالى " ، سباقى الواو البكر ، ومن المعهود أن يبدأ الشاعر بذكر الله ومدح رسول الله كنوع من التيمن والبركة ، والتوفيق ، والعشق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول مؤمن الدالى في بداية ديوانه : -
لما اتولـــد شـعـــــــشع النـــــور
يهـــدي قلــــــــــوب الحيـــــارى
يمشـــي علـى الارض لـو بـــور
تطـــــرح سنابــــل حضـــــــــارة
__
لا أبّ حابـــى حـــــيلـــقـــــــــاه
لا أمّ ضـــــــــوّت غـــتامـــــــــه
الـــــربّ مــن نـــوره خـــــــــلّاه
شمعـــــه فـــي ليــل اليتامـــــــى
_____
وبعد المدح في رسول الله يعرّج بنا الشاعر الى أحوال الدنيا والناس والوجع الإنسانى ، ومحاكاة الطبيعة، ومغازلة البيئة التى شب وترعرع فيها مؤمن الدالى، كما قال الشاعر الانجليزى درايدن، فيذكر لنا الخصال الانسانية ومايتخللها من تقلب الطبع البشرى، في مربعات حمراء يخرج منها الصهد الحارق على عين القارئ، فيقول، متوِّجاً كل ذلك بمفرداته التراثية الأصيلة وصوره الشعرية البكر البسيطة الريفية ، فيقول الدالى في بعض روائعه : -
الـــــــــــــدّقه زادى ومـــــــــلاّح
صـــــبر الليالـــى حصيـــــــــرى
أكتمــــها والــدّمـــــــع فضّـــــاح
لطفــــك يا عالـــــــم مصيـــــرى
__
القبــــــــر ينـــــده يا مغــــــرور
بعتـــــرت عمـــــرك عـــــلى ايّا
تـــــدبـــــى عليـــها لحتغـــــور
لـــــــــو مـــــرّه إفنـــــــس عليّا
_____
دربــــــــــك عليـــــــها يا دشّاع زتّتّ يا ابــــــــو العقــــــل حايس مهما تخـــــدّر دى شعــــــــــشاع والكـــــلّ جــــــوّاها حــــايـــــس
____
وهاهو يقدّم دعوة للمتحدثين بالمفردات الدخيلة ويسخر من لهجة المدينة والمفردات الغريبة عن ريفنا الاصيل، ويحرِّض ويدعو للاحتفاظ بمفرداتنا العفيّة حيث يقول :-
دنــــدن ومخـــــمخ مـــع الــواو
يقــــــرب معــــاك البعـــــــــيدى
تتغـــــــير اللـــهجه مـــــــن واو
يصـــــــبح لسانــــــك صعــــيدي
_____
وهاهو أيضا يبُث حبه وعشقه الدفين لبلده حجازة فيقول: أن حجازة لاتقل عن أرض الحجاز في عشقه ، وانه حتى لو كان في بلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن قلبه في حجازة الرائعة ، وهنا مفارقة رائعة في تشابه الأسماء والتنظير الرائع بين الحجاز وحجازة تناولها الشاعر بحرفية ومهارة رائعة ، فيقول: -
والعشـــــق أصــــله متــى حجاز
ميـــن اللــــــى قايـــل حِجـــــازه
روحـــى ترفـــــــــرف بالِحــجاز
والقلـــــب ساكــــن حجـــــــــازة
_____
ونعود ايضا الى السخرية الموجعة الضاحكة الباكية من الشاعر حين يسخر من بخته ونصيبه، فيقول
العقـــــــل تايـــه مشـــــى دروب
ملــــح القســــاوة فــي ريقــــــى
في القسمه باقـــــرا اللى مكتوب
طلعــــــــــوا الحــــزانى فـــريقى
_____
وعندما يتكلم عن تنكر الاقارب والاصدقاء، واستبدال المودة بالخيانة وعدم رد الجميل فيقول الشاعر وهو يشعر بغُصة الخيانة وألم تنكر العشير، وخداع القريب عندما يكتشف خسته ونذالته :-
نشـــــــابه حظّــــــى ونشّــــــاب
بالعنــــــد خـــربــــــط عجــــينى
أزرع مـــــــــودّه بــلا حســـــاب
واللـــــــى مــــدحــــتُه هجــــينى
______
وبعد المعاناة والوجع وتنكر الصاحب، وغدر القريب، يمنحنا الشاعر فسحة من الامل، فينتظر حلم التقاوى من رحم الأرض، وكأنه يرمى الأمل على التقاوى والبذور بعد أن خانته العيدان كثيرا، وخذله الطرح مرات ومرات فيقول:-
العُقــده ضاقــــــت ما حــــــلّاش
أصــــبــــر عليـــــها تقـــــــاوى
يا أرض مُـــــرّك مـا حـــــــلّاش
دا بكــــره حــلــــــم التّقــــــاوى
_____
وينصهر الشاعر مع الطبيعة دائما، فيبدع صوراً شعرية رائعة حين ربط الحلم على الطريق وجعله عاجزاً عن الحركة ، والنخل يقيم مأتما للعزاء
يا قطـــــر قارص ما قال طـــوط
عـــــازم لاتفــــهـــق عِــــــزالى
الحــــــلم ع السّـــكّه مـــربـــوط
والنخـــــل ناصــــب عَـــزا لــى
وكنت أتمنى هنا أن يميت الشاعر الحلم تماما حتى يتناغم مع جنازة النخيل على الحلم الميت .
_____
ثم يعود الشاعر الى الحكمة الريفية مرة اخرى، ولكنه يدُس مهنته كبنّاء بين ثنايا مربعاته ، فيذكر لنا حكمته القادمة من الجدران التى بناها في بيوت قريته فيقول :-
إفهـــــم كلامــــى دا كالمــــــاس
إن قلــــــت بكـــــره ما قاعــــــد
مـــــن قـــــبل ما تلـــعن السّاس
إنت اللـــــى رامـــــى القــــواعد
وكأنه يحقق الغصن الشعبى الذى يقول وان مالت الحيط يبقى العيب ع البنا . فهكذا كان مؤمن الدالى بنّاء ماهر في بناية المربع كمهارته ايضا في بناية البيوت .
_____
ويستدرجنا ايضا من حيث لانشعر الى مربع، لانعرف مقصده تماما، ويجعل المتلقى في حيرة المعنى والدلالة فيقول الدالى :-
ما اعــــــرفت مـــــرّه دوا لـــيك
تكشــــف وتصـــــرف دوا لــــى
كبـــــرت حتظـــهـــــر دوالــــيك
جـــــرّب مـــــــــرار الــــــدّوالى
فلا نعرف هنا هل يقصد الدوالى بمعنى المرض الذى يظهر في السيقان أو الخصيتين ، أم الدوالى هو أسم عائلته العريقة التى ربما الشاعر قد عانى منهم معاناة الحبيب مع حبيبه، حتى جعلوه يبوح في مربعاته عن مرارهم او مرار الدوالى ؟!
_____
ثم يقدّم الشاعر خبرته في الحياة الدنيا على هيئة نصيحة رجل عرك الحياة بحلوها ومرها، فهو لايبخل بالنصيحة على المتلقى حيث يقول :-
تمشـــــــى ورا الدّنيا حتـلــوص
تخـــــــــدع بكـــــــبر المــــراتب
كم سبـــــع راقـــد على الخوص
والكلــــــــب داس المـــــراتــــب
وهى عبارة عن تناقضات الدنيا وخذلانها للأصيل والحر، ورفعها للندل والخسيس وخاين العيش، فهى التى تعطى الكلب كثيرا بينما تحرم السبع من أقل حقوقه ، وهذا من مكر الدنيا وعنادها الأحرار .
_____
وهكذا يكمل الشاعر سخريته من الدنيا في قالب كوميدى وساخر ، لكنه سخرية مبكية وفكاهة حزينة، عندما يقول :-
كنـــــــــــزك محبّه لــــو تــــدّوم
إخشــــــــن ودوس الحـريـــــره
لتــــرم يا خالـــــى نحـــــت دّوم
واب ســـــنّه واكـــــل حـــــريره
____
ويعود الشاعر ليحاكى الطبيعة ، في حالة تنظيرية مدهشة بين بكاء السنط الحزين، ووصايا الاتل الحكيم، فيقول عندما تلقى بالفصاية التى هى نواة البلح: عليك ان تغرسها في ارض حرة، بعيدة عن اللا كاليك والعُقَد، وعيوب الارض، فقد تكون التقاوى صالحة ، لكن العيب في الأرض، والعكس صحيح حتى لانظلم الارض وننتصر للتقاوى .
السنـــــــط عـــــارف بكـــى ليك
الأتـــــــــل قـــــــال الوصــــــايا
إعمـــــــل حســـــاب الــــلاكاليك
ســــــــاعة ما تـــــرمى الفصايه
_____
كعـــــكَع ولمّا ســــــــــرى الليـل
بـــــــان الــــــدّكــــر والـنّــــتايه
مــــن قضّى عمــــره ورا الـدّيل
مــــــــا يلــــمّ غيـــــر الخــــتايه
وهكذا يستمر الدالى في حكمته وسخريته وصوره الشعرية المركبة المضحكة الساخرة ، عندما يسرى الليل يظهر الذكر من الانثى، ويقصد بالليل هنا الشدة وظلمة الظروف والمعاناة ، وفى معركة الحياة القاسية وليلها الاسود، يظهر الشهم من النى ، والحر من العويل ، ويقول ان الذى يظل حياته وراء ذيول البقر لن ينال منها سوى الختاية وهى روث الحيوان وبرازه اللين .
_____
فــــي الشّقّ ســــاكن وغبــــيان
الهــــــــــمّ ســــــــدّ المنافـــــس
مـــــن ينسى عيشه اللى خمران
تُعفـــــص عــــليه الخنافـــــــس
وهكذا يخوض بنا الدالى في التفاصيل الصغيرة، التى لم يتركها تمر سدىً، فيقول ان الهموم تأتى احيانا بسبب اللامبالاة من الانسان وتركها بلا وعى او دراية، والثقة العمياء في اللئام والخونة ، فالذى يترك خبزه الخمران على المقارص أو الدوّار كما نسميه في قريتنا ، فلابد أن تمتطيه الخنافس القذرة التى تأتى اليه في حالة الغفلة والغيبوبة عن الإدراك ، وكأن الدالى هنا يحقق مقول الكاتب الاوروبى فرانس كافكا حين قال " ويلُ للمستوعبين، فالإدراك منفى والجهل وطن " .
_____
وهنا يوقظ الشاعر الرجل المشغول عن الارض، وهى صورة مجازية ، فالأرض هنا مطلقة وليست محددة بمعنى مقصود، فقد تكون المرأة ، وقد تكون الدنيا، وقد تكون ألارض ذاتها ، لكنى أظن أنها المرأة المهمَلة من صاحبها المبروش على بطنه ، وترك انوثتها وحلاها لغيره ، بسبب اهماله وهجرها من أجل القرش ، وهى قضية الغربة والبعد عن الزوجة يقدمها لنا الشاعر بطريقة رائعة .
الأرض تبكــــــى يا مبـــــروش
ملهـــــى ما سامـــــع بُكــــــاها
مـــــن همُّه يجرى على قروش
للغُــــــــــرب قدَّم حـــــــــلاها
____
ومازال الشاعر يقدِّم لنا مربعاته الحمراء بلون الدم النازف من حناجر الفقراء، فيقول مخاطباً تنكر الوطن ، او مصر أو بهية بصفة مجازية ، فيقول:-
شــــفنا اللى حاصــل ما بنكُح
ميــــن اللــــى بالعنـــدِ وزِّك
إبنك ما لاحـــق دكـــــــر بُح
والكلب ينهــــــش فــــــى وزِّك
____
مـــــن يعشق الأرض خد ديس
يحلـــــــم بطـــــــرح السَّـــباقى
تحكـــــى معاه القــــــــــواديس
يسمــــــــع أنـــين السَّــــــواقى
_____
وهكذا يواصل الشاعر حكمته الريفية البسيطة المأخوذة من الطبيعة ومفرداتها مثل النخل ،الحلف ،الديس ..الحواصل ..الطلاطيح ، ..الليف، فيقول بلغة الحكيم الخبير الذى، عشق الريف ولم يخشى على جلبابه من الطين ، فلايعرف معنى الريف الا الذى تلطخ بطينه، ورقد على درابيس حقوله، ومضغ سلاع نخله، وسار وسط عاقوله دون ان يتحسّر على جلبابه .
والحلـــــف يضحك على اعتاب
عابـــت عليـــه الحــــواصـــــل
القفـــــل يبــــكى مـــــــع الباب
ما عـــرفت إيه اللــــــى حاصل
_____
كـــم يفنى لاجـــــــل الرَّجا جيل
يا نخـــــــــل أُصبُـــــــر وحادى
في الحـــــــبل راحوا الرَّجاجيل
ميـــــــن اللـــــــى يِفتِل وحادى
____
يا نخـــــل هـــــــــات الطَّلاطيح
نلعــــــــــب ونـــــادى وليــــفك
عجــــَّزتِ ياك انـــــت بطِّـــــيح
والهمِّ عشـــعش فـــــــــى ليفك
ولا ينسى الشاعر بعد هذه الجرعة الكبيرة من المربعات الحمراء، الذى طال فيها نزفه ، وباح فيها بوجعه، وبث فيها أحزانه وشجونه ، ان ينهى ديوانه ببعض المربعات الخضراء التى تعبر عن الحب والغزل، ومايتفرع منه من وصل وهجر ، ووصف للمحبوبة ، ولوعة وفراق، ونوى ، وغرام، ووجد، وهيام، وشوقاً الى اللقيا. فيقول الشاعر مخاطباً محبوبته التى سحرته، وجعلته قيس حجازة الجديد الملتاع من نار الحب ولهيبه ، حتى انه يقف على حافة الجنون من سحرها وأصبح بين ليلة وضحاها مؤمن ابن الملوّح ،اصبح مؤمن الدالى كأنه مجنون ليلى الجديد، ينام في الحلف، يهيم على وجهه ليلا في دروب حجازة النائمة ليلمح وجه محبوبته، يهاتى بكلام غير مفهوم، يستحمى في ترعة حجازة ليلا غير غير آبهاً ببرد الشتاء القارس، ويسير على التراب حافيا بلا حذاء، طالقاً شعر ذقنه، يذهب الى ساحات الأولياء الصالحين ليبث وجده وهيامه على أعتابهم، فكم ذهب الى الشيخ أبو خرمة، والى الشيخ المهدى، لتسكن نار عشقه الملتهب، وهاهو يقول لمحبوبته لمحبوبته طالبا رضاها :
______
لــــو ع الدَّهب لاشترى الماس
إن قــــولتى أيـــــوه ولــــــولى
رمشِك في قلبــــى عــمل ماس
عــــن سحــــــــر عينك قالولى
_____
أُطلــــــــب عيــــونى ألافيــــــك
أصـــــل البــــــلا مـــــن دهاتى
غالى وكـــــل الحـــــــلا فـــــيك
لــــــو قالـــــــــوا إسمك بهاتى
_____
ماشـــــى طـــــريقِك دى قـرَّاب
والبُعــــــــد شكــــــشك هــرانى
لجلك أنا ارقُــــد علــــى تــراب
أعـــطــــش وحُــــبِّك روانـــــى
وهكذا بعد العطش للحب، لم يطلب الشاعر ماء ليشرب أو حتى عصير من قصب حجازة ، او حتى خمرة من دكاكين قوص ، لكنه اكتفى بريق المحبوبة الذى رواه فكان أحلى من العصير والخمر . وهكذا كانت نهاية الديوان خضراء ورائعة كندوتنا هذه المدهشة التى ارتوينا منها جميعا وكأننا سكرنا مع مؤمن الدالى من خمر ديوانه، ومن واواته البكر السباقى .








