الجمعة 23 مايو 2025 07:07 مـ 25 ذو القعدة 1446 هـ
بوابة صوت الصعيد
رئيس مجلس الإدارة محمد رفيع رئيس التحرير محمد عبد اللاه
×

الفراعنة في بون

الثلاثاء 3 يوليو 2018 10:25 صـ 19 شوال 1439 هـ

فندق جامعة بون (12/6/1990)

لم أكن من هواة كرة القدم حيث إنني عندما كنت صغيرا لعبت كرة القدم في شارعنا وفي ركلة بقدمي كسرت صابع إبهام قدمي اليمني واضطررت إلي وضع الجبس علي قدمي شهرا كاملا لم أستطع أن ألعب الكرة فيه، من هنا جاء قراري بعدم اللعب بكرة القدم مرة أخري، واتجهت للسباحة لأنها أفضل لي، والبحر يستهويني والخيال فيه يتجدد وينمو، لكن أن يلعب منتخب مصر فهذا شيء آخر، نسيت الجبس وأيامه، وتحولت إلي "مارادونا" أو "بيليه" أو "بيكنباور" الذي شاهدته صدفة بعد سنوات في القرية الأوليمبية بميونيخ، صرتُ كأنني خبير كروي، لكن في الغربة بألمانيا ماذا أفعل؟

في البيت المخصص لطلاب الماجستير والدكتوراه ببون ويقع في شارع لينيه ويطل علي أجمل حديقة في بون وهي حديقة »هوف كارتن» التي تطل من الناحية الأخري علي نهر الراين، ومن الناحية الثالثة المباني العتيقة بجامعة بون حيث أدرس الدكتوراه آنذاك، وأما الناحية الرابعة فكانت لمبان حكومية حديثة. في هذا المبني ذي الطراز المعماري الفريد نزلت قبل عامين كان معظم الطلبة والطالبات من ولايات ألمانية خارج ولاية شمال الراين حيث تتبع مدينة بون، وبينما أهمُّ بالخروج من المبني صباحا بادرتني زميلتي ريجينا علي السلم: صباح الفراعنة، قلت صباح الخير، ثم قالت: سننزل جميعا إلي مسرح المبني مساء لنشاهد مباراة مصر مع هولندا اليوم... لا تقلق سأشجع مصر حتي لو لم تنتصر.. حظها سيئ أنها وقعت مع هولندا، لم أشأ أن أدخل في حوار معها لأن الوقت صباحا لا يسمح بالتباطؤ والتلكؤ، شكرتها وانصرفت للجامعة ولكن طوال الوقت أفكر كيف ستكون المباراة مساء؟....

يقع المسرح الصغير في الطابق الثاني بالمبني ويسع لمائة فرد بينما نحن في المبني ذي الأدوار الأربعة لا نتجاوز الخمسين، لكن ذهبت قبل الموعد فوجئت أن القاعة مملوءة تماما ونادي عليّ مارتن وهو شاب من ميونيخ يدرس الطب بجامعة بون وأحضر لي كرسيا لأشاهد المباراة وقال في لكنة بافارية:

كُن رياضيا وتقبّل النتائج بروح رياضية، ابتسمت وبدأت زميلتنا الإيطالية إيميليا ألفينو تشرح لنا ملعب رينزو باربيرا، باليرمو بإيطاليا وتحولت بقدرة قادر من دارسة للألمانية بجامعة بون إلي معلقة رياضية متعصبة لبلدها إيطاليا ولا يخلو تعليقها من فكاهة، تقول: ها هي أمي في الملعب إنها تشجع في الشوط الأول مصر من أجل بدران وفي الشوط الثاني تشجع هولندا من أجل الشيكولاته البيضاء، لكن المباراة بدأت، وبدأ الصمود المصري أمام الأقدام الهولندية، كان الصمت مخيما علي الجميع والأنوار خافتة، وفجأة تحولت القاعة إلي مشجعين لفريق الفراعنة بدأت أتمتم بأدعية في سِرَّي، لم يقطعها سوي انتهاء الشوط الأول والنتيجة تعادل (صفر/صفر) وتحلق الجمع وكانت ريجينا أول من شجّع المصريين وقالت: لم أتخيل أن مصر تصمد شوطا كاملا أمام هولندا.. يا إلهي.. هل منحهم رمسيس أقدامه؟ وبدأ العجب والدهشة علي الجميع، وأجمعوا أن أداء المنتخب المصري أفضل من المنتخب الهولندي، لقد نسوا هولندا التي تبعد حدودها عدة كيلومترات عن بون، صرتُ أكثر ثقة في فريقنا، وأكثر فخرًا به، بدأ الشوط الثاني وفي الدقيقة 14 أدخل الهولنديون هدفا في الشباك الفرعونية، وعمّ الصمت، لم يقطعه سوي اشتيفان الهولندي فرحًا، وسرعان ما ردت عليه إيميليا: هل أنت موجود هنا؟ ظننت أنك اختبأت وراء الهرم المصري وهربت، وعاد الصمت حتي الدقيقة 38 التي أدخل فيها مجدي عبد الغني هدف التعادل لتصيح القاعة وكأننا في مقهي بالعتبة أو قنا، كانت الحناجر تهتف مصر.. مصر.. وراحت مارينا الفرنسية تزغرد في أذني زغرودة ذكرتني بزغرودة فرح صعيدي... يا إلهي كم كانت ذكريات جميلة تداعت إليّ عبر سؤال وجهته لي الأستاذة عائشة المراغي عن ذكرياتي عن كأس العالم في 1990

الرحمة تسبق العيد في قريتي

من المألوف بالقري أن اليوم السابق للعيد يسمي "يوم الرحمة" من التراحم والتآلف، ولذلك كنت أفرح كثيرا بهذا اليوم حيث أطوف علي أخواتي المتزوجات حاملا كيس اللحم والخضراوات والفواكه، وكنَّ يملأن جيوبي بالحلوي والفلوس، ولأن أخواتي كثيرات في قري مختلفة فكان هذا الطواف رحلة ممتعة لي ستتكرر في اليوم التالي وهو يوم العيد،، وأدركت بعد ذلك لماذا كان أبي يصرّ علي ذلك، حتي تشعر الأخت أن أباها وأمها وأهلها يتذكرونها في يوم الرحمة، وتشعر الأخت بالتراحم والتكافل واللّمة التي تركتْها عندما ذهبتْ لبيت زوجها.

النادي يهزم المندرة

كانت المندرة المكان الوحيد الذي تقام فيه الأفراح، فكل عائلة لديها مضيفة كبري "مندرة" وكان الشباب يقومون برصّ الدكك "الآرائك" والمساند، كان الرجال يتوافدون منذ العصر فرادي وجماعات، في الأفراح بإمكانك أن تأتي وحيدا لكن لا يستحسن أن تأتي لتقديم العزاء بمفردك؛ ولذلك كان الكبار يقولون لنا عندما نهم بالذهاب للعزاء، "خدْ حد معاك" يتراص الناس فوق الدكك في الفرح ويُطاف عليهم بالسجائر - ممنوع توزيعها في العزاء - ثم يأتي مَن يدعوهم للعشاء، والطريف هنا أن الجميع يعرف أنه سيتعشي في الفرح لكنه يتمنّع كي يُقسم عليه المقدّم وهو رجل معروف أنه يعرف الناس ولديه قبول ما لديهم وقادر علي الحركة والانتباه مع صوت جهير يُقْسِم به علي كل ضيف قَدِم للفرح أن يدخل للمائدة - قديما كانت الطبالي - ومع ذلك فهو يتمنع متحججا "ماليش نفس" ليتدخل صاحبُ الفرح مع المقدم ومعه اثنان أو ثلاثة رجال ليقسموا في صوت جهير عليه أو علي مجموعته حتي يدخلوا للأكل، طقوس متعارف عليها، غير مكتوبة لكنها شبه مقدسة، وإذا نسي المقدّم واحدا لم يعزم عليه للعشاء، فالويل كل الويل لصاحب الفرح الذي سيقاطعه المنسي أعواما طويلة، وقد ينجب العريس ويصير له أحفاد والمقاطعة مستمرة بينهم.

بعد العشاء يبدأ أحد المقرئين في قراءة القرآن، واسم المقرئ يحدّده المستوي الاقتصادي لأهل العريس، فإذا كانوا مستوري الحال فليس من الضروري أن يكون هناك مقرئ، وإنما عليك بعد العشاء أن تضع النَّقوط وهو مبلغ للعريس أشبه بجمعية دوّارة تساعد فيما تبقي من أموال صُرفت لشراء "عفش" العريس الذي لم يكن سوي سرير ودولاب وتسريحة، ودِكتين أو أنتريه بسيط يشتريه العريس بينما تجهز العروس المطبخ البسيط الذي يخلو من الأجهزة الكهربائية لعدم وجود كهرباء بالقرية آنذاك وهذا المبلغ الذي "ستنقّط" به العريس يتوقف تحديده علي نقوطهم المسبق.

وقد يُحضر أحدهم الطبل والمزمار البلدي في ليلة سابقة للزفاف، وكان جمهور الطبل هم سمّيعة القرآن الكريم في الليلة الثانية، ويرددون: "ساعة لقلبك وساعة لربك" فجأة رفض الشباب المعاصر أفراح المنادر بحجة أنها مكلفة ماديا واتجهوا للنوادي التي كانت رخيصة في البداية ولا تكلف الشباب شيل الدكك، كانت مقاومة الكبار لهذا التغير المكاني كبيرة، لكن أمام ضغط الشباب والنساء رضخوا، فالنساء لا يردن أن يطبخن في الأفراح ويرغبن في الذهاب للأندية في المدن القريبة من القري، إضافة أنها فرصة لرؤية المدن والتنزه قبل الفرح وشراء ما يحتجنه من المدينة.

ذهب الجميع للنادي - ماعدا الكبار الذين رأوا في ذلك خروجا علي التقاليد والعادات، مكثوا في منادرهم يجترون ذكريات لن تعود ويلعنون أجيالا لم تعد صاغية لنصائحهم وكلمتهم التي "وقعت علي الأرض".

فرح النساء

تتجمع النسوة في بيت العروس قبل الفرح بأسبوع يوميا لخبيز البسكويت الذي ستأخذه العروس معها لبيتها الجديد ويتجمعن مساءً للغناء والرقص في بيت العروس الذي يُخلَي من الرجال المتجمعين بعيدا في المندرة وتبدأ طقوس "الحناء" قبل الفرح بيومين أو يوم، وتتحني معها قريباتها وصديقاتها، والأجمل هي الأغاني المرتجلة والتصفيق ورقصهن مع بعضهن البعض دون أن يراهن رجل...

وفي يوم "الدخلة" يبدأن في تزيين العروس بما عرف فيما بعد "بالمكياج" أدوات بسيطة كالكحل والحُمرة والليمون.. أشياء طبيعية دون تطويل للرموش ودون عدسات لاصقة حوّلت عيوننا العميقة النيلية إلي عيون أوروبية لا تتناسق مع لون بشرتهن القمحية وقوامهن الصعيدي الجميل... هُزمت المندرة وانتصر النادي وضاعت الأغاني ليحل محلها ديجيه مزعج بكلمات لا جمال فيها ولا إبداع، وتحوَّل الإنس في العُرس إلي خُرس!

المرماح

قبيل الفرح بأيام يقام المرماح الذي يشير إلي فعل "رَمَح" أي جري سرعة الرُّمح؛ فهو سباق الفرسان مع خيولهم وهذا يبدأ عصرا ويصاحب بالزمارين الذين يعزفون فيسير الفرسُ المدرَّب علي إيقاع النغم إذ يبدأ الفارس بالدوران حول الدائرة الكبيرة التي يتجمع الناس حولها وهنا يبدي الفارس والفرس مهارتهما فالفرس يتراقص في جمال مبهر وهذا يدل علي براعة الفارس وعندما شاهدت مصارعة الثيران في غرناطة قارنت بينها ورقص الخيول لدينا.. شتان بينهما.. فالخيول عندنا ترقص رقصة الحياة والجمال، بينما الخيل والثيران ترقص هناك رقصة الموت والفناء..

علي قدر مهارة الفارس وتدريبه فرسه تكون المتعة ويحدث التماهي بين البطل والزمر من ناحية وحركات الفرس المدرب الذي يمشي الهويني أو عندما يمشي علي قدميه الخلفيتين فقط ويرفع قدميه الأماميتين في الفضاء وكأنه طائر العنقاء سيطير عما قريب وسط تصفيق وصياح المشاهدين المبهورين ليخرج من الحلبة ويدخل فارس آخر حتي آخرهم لتفتح الحلبة مكوّنةً صفيْن متقابلين ليبدأ السباق، وهنا تلهث الأنفاس وتركض الخيول مخلفة غبارا عبّر عنه المتنبي ويتصافح الفرسان وهما علي فرسيهما إعلانا بقبول النتيجة والجوّ التسامحي بينهما. الجميل أن كل فارس يحمل عصا طويلة يستخدمها كوابح "فرامل" للحصان لإيقافه عند اجتيازه الخط النهائي للسباق، وعلي مقربة منهم يقام سباق التحطيب الذي لا يقل متعة عن سباق الخيول؛ هكذا كانت الأفراح قبل وقت قريب لتأتي العولمة والأندية التي جعلت النسوة في القرية صامتات يتحدثن بالإشارة ونسين أغنيات الأعراس واستمعن إلي مادونا وشاكيرا وسيلينا جوميز.. و"بحبك يا حمار".

ورحت أردد ما قاله شاعرنا الكبير محمد إبراهيم أبو سنة : "الزمانُ اختلفْ، خاسرٌ من يقفْ"

* نائب رئيس جامعة جنوب الوادى لشئون التعليم والطلاب