بوابة صوت الصعيد

السحرة والمشعوذون في القرية الفيومية

الجمعة 16 مايو 2025 12:24 مـ 18 ذو القعدة 1446 هـ

بقلم -د. أيمن عبد العظيم :

امتازت القرية الفيومية قديمًا بأنَّ لها وِجهة تجعلك تسلكُ الطريقَ إليها متعجلا، فإن كنت من التجار فستجد في القرية محاصيل القمح والذرة والأرز والقطن، فتذهب للمزارعين وتشتري منهم أجود المحاصيل، وإن كنت مهمومًا بالقضايا الاجتماعية، ستجد في كل قرية شخصيةً يُعدُّها الناس رمزًا اجتماعيًا يرجعون إليه في حل مشكلاتهم، ومرجعًا يستشيرونه في أمورهم، لما يجدون فيه من سلامة النصيحة وقوة البصيرة.

أما في عالم الثقافة والأدب فكان للقرية الفيومية الرِّيادة، يكفيك  فخرًا حين يُذكر اسم الفنان يوسف وهبي، أن يُقال إنَّه ولد على ضفاف بحر يوسف، وأن الشيخ زكريا أحمد الرائد المسرحي الكبير كان من سنورس، وحين يذكر اسم الشاعر القبطي الشهير زكي يوسف الفيومي أن يقال اَّنه من قرية أصلان، وأنَّ الأديب هاشم عبدالحي كان من قرية قلهانة، و أنَّ نابغة الفيوم إبراهيم رمزي كان من منشأة رمزي ، وعبدالقوي الإعلامي تعرف به قرية الأعلام، وهكذا ما إن تذكر اسم علم من أعلام الثقافة والأدب حتى يُقال لك إنَّه من القرية الفلانية، وقد تعرف القرية بأنها بلدة أحد قراء القرآن الكريم، أو بلدة عالم من علماء الأزهر  أو غيرهم.

ولكنَّ المُشاهَد أنَّ تحوُّلًا خطيرًا في الناحية الثقافية قد أصاب القرية الفيومية، فهجرها الأدباء إلى المدينة، حتى شعراء العامية قلَّ شعرُهم وضعف صوتهم، وفي المقابل برزت في القرية ظاهرة ثقافية أخرى، إنَّهم الدَّجالون والمشعوذون الذين تعجُّ بهم القرى الفيومية في زماننا.

 يُدعَون عند النَّاس بالشيوخ المعالجين، ويسمّون على وجه الحقيقة بالدجالين المشعوذين، إذا ذكرتَ اسم قرية فيومية، قالوا لك إنَّها بلدة الشيخ فلان، وإذا سألت الناس من هو الشيخ فلان؟، قالوا لك: "إنَّه شيخ معالج، وإنَّه عبقري زمانه في العلاج الروحاني، يحلُّ لك جميع المشكلات، ويأتي إليه الناس من جميع أنحاء العالم" ولا تعرف لماذا يأتون إليه من أصقاع الأرض، ولن يفيدك التعجبُ في شيء!! فهم يؤمنون بقدرة شيخهم أشدَّ الإيمان، بل يرونه أحد النوابغ الذين ظهروا في قريتهم في هذا الزمان، وإذا سألتهم كيف يعالجهم؟ قالوا إنَّه يعالج بالقرآن الكريم.

يا إلهي! كل هؤلاء يعالجون بالقرآن الكريم؟! فمن يكون الأشرار الذين يستخدمون علومهم الروحانية في إلحاق الضرر بالناس؟! وأين هم؟ لماذا لا نعرفهم؟؟ لماذا لا يستنكرهم هذا المجتمع الصالح؟؟  ولن تصل إلى إجابات، فلن تعلم منها سوى أنَّ الظاهرة منتشرة في الفيوم على نطاق واسع.

كيف استُبدل بالأدباء وعلماء الدين قومًا آخرين من المشعوذين والدجالين، وكيف توارى الشعراء والمبدعون ليحلَّ محلهم من يفعلون أعمال الشياطين، ويرتدون قناع الملائكة، ينتشرون في كل قرية، وإعلاناتهم في كلِّ مكان، حتى باتوا علامة على وجه الفيوم، لا تكاد تذكر اسم الفيوم حتى يُقال لك: الفيوم بلد المعالجين الروحيين.
 

قد يكون من المفهوم سبب انتشار هؤلاء الناس في أزمان الجهل في القرون الخالية، أمَّا اليوم فقد انتشر الطب، وتطور العلم، وانقسم التخصص الواحد على عشرات التخصصات، فما بالنا نترك الأطباء المتخصصين ونذهب إلى الدجالين والمشعوذين؟؟ ونترك العلم المصيب، ونشدُّ الرِّحال إلى الجهل المُريب، من هؤلاء الناس؟ وأين تلقوا علومهم؟ ومن الذي منحهم لقب الشيوخ؟!

 طرأت ظاهرة السحر والشعوذة على ثقافتنا الجديدة، فتركنا العلم وما يأمر به، وأعرضنا عن الدين وما ينهى عنه، وبات المشعوذون طوق نجاة يستغيث به المخبولون، وإذا نظرت إلى ما يدَّعي هؤلاء فعله، وجدت أنهم لا يحلون مشكلة اقتصادية، لا يناقشون قضية علمية، ولايجارونك في ظاهرة أدبية، وإنَّما غاية ادِّعائهم وزعمهم هو قدرتهم المزعومة على حلُّ مشكلات اجتماعية، عجبًا لهم! كيف يحلُّون المشكلة دون إدراك عناصرها؟ وكيف ينشرون السلام دون اجتماع بجميع أطراف المشكلة، ألسنا قادرين على حلِّ كلِّ مشكلةٍ بعقولنا؟ ألم يخلق الله تعالى لنا عيونًا تبصر وعقولًا تستبصر؟ ألم يخاطبنا سبحانه تكريمًا لنا بذوي العقول، فنادانا في القرآن الكريم، بقوله تعالى (يا أولى الألباب).

 لقد كان من المتوقع أن يكون الإنترنت وسيلة توعية وفهم، ولكنَّه بات وسيلة نشر إعلانات الدجالين والمشعوذين، وحتَّى إذا لم تفتح أحد تطبيقات الإنترنت، ستجد إعلانات الدجالين في مجتمع الفيوم، في مفترقات الطرق، وفي مداخل القرى، وبالقرب من المدارس، فلم تعد الظاهرة السلبية تمارس على استحياء، بل بات أصحابها يجاهرون بها، ولا يخجلون منها.
 

كيف يمكن نصعد درجاتٍ على سلم المدنية والتطور؟ كيف يمكن أن نأخذ مكانًا متقدمًا في ركاب الحضارة؟ كيف للفيومي الذي علَّمَ الدنيا الزراعة والصناعة والفنون والآداب أن يقع ضحية لدجَّال أو مُشعوٍذ؟ كيف ستنشأ أجيالٌ جديدة من الأطفال بين كبارٍ يؤمنون بالجهل، ويقدسون الخرافة، ويبجِّلون المشعوذين؟