صوت الصعيد

الخميس، 5 ديسمبر 2024 02:22 ص
صوت الصعيد
جرأة .. موضوعية.. التزام
  • موتورولا
  • صنع في مصر
رئيس مجلس الإدارةمحمد رفيعرئيس التحريرمحمد عبد اللاه

أهم الأخبار

    مقالات

    التسول.. والمتسولون في شوارعنا

    صوت الصعيد

    بقلم- الدكتور أيمن عبد العظيم :

    بينما تنطلق مصر في سبيل المدنية والتحديث الحضاري يلفت الانتباه أن تجد في مصر هذا العدد من المتسولين، ليس في القاهرة وحدها، بل في المحافظات أيضًا، نحن نعيش في دولة يتراوح اقتصاد أغلب مواطنيها بين المتوسط وفوق المتوسط، دولة عدد سكانها كبير، الموروث الثقافي فيها جامد، لا يشجع على النظر إلى المستقبل بقدر ما يعود بك دائما إلى الوراء، ولكن هل هذا كله يبرر ظاهرة التسول؟؟!!

    المتسولون (الشحاذون) أنواع وفئات متعددة، رجال ونساء وأطفال، متعلمون وأميون، أصحاء ومرضى، شيوخ وشباب، يرتدون ملابس القرية وأحيانا ملابس المدينة، يحدثونك بكل لهجة تعرفها وتقتنع بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

    لاتراهم في الأماكن المزدحمة فحسب، أو بل حتى في الأماكن التي يُثنتظر أن تكون مزدحمة في أوقات خاصة، يتحلقون على أبواب المساجد والمدارس والمستشفيات، في مداخل الأحياء، في محطات السفر ووصول الركاب بالمترو وغيرها.

     إنَّهم يلحون عليك بالدعاء المناسب لك حسب شخصيتك، وحسب المكان الذي يرونك فيه، فهم يدعون لك بالنجاح أمام باب المدرسة، ويدعون لك بالشفاء أمام باب المستشفى، ويدعون لك بسلامة الوصول أمام محطات وصول الركاب، وإذا التقى بك أحدهم في أحد الأماكن العامة فإن دعاءه لك يكون دعاء عامًّا أيضًا مثل (ربنا يصلح حالك) أو (ربنا ينجح لك مقاصدك).
     عجبًا لهؤلاء المتسولين في شوارعنا لا يملكون إلا الدعاء من حطام الدنيا، لكنهم يربحون به الكثير من متاع الدنيا، المسألة بسيطة، كثير من الكلام بالدعاء يؤدي إلى الكثير من المال، وكلما كان المكان مزدحمًا كلما كان المال أكثر وأكثر

    مئات الألاف من الناس يحترفون هذه المهنة، لا أحد يعلم عنهم شيئا، مغمورون، يتحركون في الظلام، يحصلون في العلن على ما يحصل عليه اللصوص في الخفاء، والسارقون والشحاذون كلاهما يحقق هدفه دون متاعب، ويصل إلى ما يتغياه دون شقاء، كل هذا بينما الغالبية العظمى من شعبنا لاتزال تؤمن أنه لا طعام لذيذ كالذي اجتهدنا في الحصول عليه، وتعبنا من أجل الوصول إليه.

     هذا يعني أنه لا فرق بين اللصوص والمتسولين، كلاهما مثل  الدبابير التي تعيش على ما تسرقه من النحل المجتهد، الذي يتعب ويكد في جمع الرحيق، وصنع العسل، وتركيب الشمع.

    لا شكَّ في أنَّ هؤلاء المتسولين أسعدهم الحظُ كثيرًا بانتشار ثقافة اجتماعية سلبية تدعمهم، وتضمن استمرار وجودهم، بل تكفل أيضا انتشارهم، لهذه الثقافة مقوماتها، مثل عبارات باتت ثابتة في أذهاننا ( نحن نعطي والثواب من الله) ومثل( نحن لنا الظاهر) ومثل( الإهمال الذي خلق مثل هؤلاء) ومثل ( نحن نتصدق عليهم لنطهِّر مالنا) وغيرها من العبارات التي تجعلك وأنت تتصدق عليهم تنتشي  فرحًا، وتصل إلى أبعد درجات الرضا عن نفسك، والقناعة بما تفعله، لعلك بهذا تكون قد أدَّيتَ فرضًا غائبًا هو الزكاة، أو أنقذت أسرة من الضياع فأسهمت بمعروفك في إنقاذ المجتمع.

    ولكنَّ بعض الأسئلة توجهها لنفسك تجعلك تكتشف الحقيقة، أو تعرف الخديعة الكبرى، من  بين هذه الأسئلة: لماذا يتسولون؟ الإجابة: يتسولون للحصول على الطعام، سؤال آخر، لماذا يقف هذا الرجل ويحمل معه روشتة الطبيب؟ الإجابة: ليحصل على الدواء، وغيرها من الأسئلة التي إنْ أعدتَ التفكيرَ فيها لكشفت لك عن الكثير من الحقائق الفاضحة.

    هؤلاء الذين يتسولون من أجل الطعام، ألا يكفيهم تسول ساعة واحدة طعام اليوم كله؟، والذين يتسولون يومًا كاملًا ألا يكفيهم  ذلك اليوم طعام أسبوع، يا الله، إنه احتراف بالفعل، وذلك الذي نزل إلى الشارع فكشف وجهه ومد يده؛ لأنه محتاج ، هل تخلى عنه الجيران والأقارب والأصدقاء جميعا؟ وهل تركته الجمعيات الخيرية؟ لنفرض أن هذا كله حدث، ألا يكون قنوعا؟ ألا يكتفي بالقليل الذي يسد الرمق ويحفظ النفس؟ بدلا من احتكاره هذا الذي نراه لبعض الأماكن كأنه امتلكها ليتسول فيها....

    هذا طفل صغير يتسول بطريقة جميلة، يمسك بكتاب ويذاكر فيه أمام بوابة  محطة المترو، وأنت تتعاطف معه، تقول يا لقسوة الحياة! ثم لا تلبث أن تتراجع عن هذا التعاطف عندما تجده لم يغير الصفحة الذي يذاكرها لثلاثة أيام متتالية، اراها في كل يوم أثناء ذهابك وإيابك من محطة المترو، وهذا رجل مسن يحمل روشتة طبيب يحتاج العلاج، يكلمك بصوت متهدج كصوت الذي يشرف على الموت، وعندما تقترح عليه الذهاب إلى الصيدلية ليتناول العلاج كله أمامك، وتدفع له الثمن، يتغير عندها صوته، ويرفض عرضك، وثالث يقول لك إنه جائع ولايريد أكثر من ( ساندويتش) وعندما تقترح عليه الذهاب للمطعم ليأكل  مايريد، وتدفع أنت له ثمن الطعام يرفض العرض بشدة.....

    ليست هذه دعوة لمنع الصدقات، ولكنها دعوة لترشيدها، أو لوضعها في طريقها الصحيح، وليست هذه دعوة للقسوة الاجتماعية، ولكنها عروض لتوجيه الإنفاق في مكان الصحيح ليحقق أثره المرجو منه، فنحن نعرف ــ وكلنا يعرف بالطبع ــ آلافًا من المحتاجين ربما من أقربائنا أو جيراننا، يبالغون في تدبير أمور نفقاتهم حتى لتحسبهم شديدي الفقر، وأنت مع ذلك تحسبهم أغنياء من تعففهم، يدبرون أمر الطعام والملابس، ورغم حاجتهم الشديدة يمنعهم الحياء من التسول، ألا يستحق هؤلاء منا نظرة مخلصة؟ نظرة عطف ورعاية، وأكثرهم لديهم من البنين والبنات من هم في حاجة إلى الكثير من متطلبات الحياة.

    هذه دعوة للابتعاد عن المحتالين الذي يتاجرون بالفقر ويعشون الأغنياء، ودعوة للنظر إلى الفقراء الطيبين الذين يوصفون بصفات الحياء والتعفف، وكفانا بهم اعتزازًا أنهم خزان الثقافة، ومستودع القيم والتراث في كل مجتمع.

    التسول-المتسولون-الشوارع-أيمن عبد العظيم

    مقالات

    الأعلى قراءة

    آخر موضوعات